المقدمة
مستجدات طبية
الحمل و مشاكل الولادة
صحة عامة
أمراض الأطفال
مواضيع بالأمراض الداخلية
الجهاز التناسلي المذكر
أراء طبية حرة
مخطط الموقع
باب أراء طبية حرة - الصفحة (9) - صحة - طب عام
شهادة وفاة
د. عمر فوزي نجاري
شهادة وفاة أليست الحقيقة واحدة مهما تعددت زوايا النظر إليها ؟! ..أليست إحدى مشتقات كلمة الحق؟ .. فلماذا أجبر على مصافحة الباطل؟.. وما الذي يدعوني للانغماس في حمأة الظلام؟.. هل أصبح تغريد الطيور نواحا ؟ !.. قبل أن يتم حديثه نهض متجها إلى الشرفة الغربية ليعب من هواء البحر المشبع بالرطوبة المنعشة ذلك الهواء ذي الطعم الخاص والنكهة الخاصة والرائحة المميزة الذي يبعث في الروح الحنين للأيام الخوالي، هواء منعش يجعلك تتمنى لو يمتد بك الزمن فلا ينتهي. عجوز مترهل، أشيب شعر الرأس ¸محدودب الظهر، امتاز حديثه بالقدرة على امتلاك أسماع الحضور، اعتاد أن يردد دائما مثل هذه العبارات أثناء تجوله كسحابة تتهادى في السماء، تعبيرا عن رفضه لحياته الراهنة كنزيل في دار رعاية العجزة والمسنين. مضت عدة سنوات منذ أن كلفت بالإشراف الصحي والاجتماعي على نزلاء دار رعاية العجزة، وقد كانت لي معهم أيام لا تنسى وذكريات يصعب على الزمان محوها، إذ لكل نزيل تجربته في الحياة ... حكايات ومآس توجع القلب تاركة بصماتها على محيٌاه، فبعضهم يفهم ويقٌدر.. وبعضهم يشتم ويلعن.. بعضهم يزعجه صرير الباب..وبعضهم ينق من طنين الذباب. أغلب النزلاء قدموا إلينا من بيئات حكم عليها بالموت حية، بعد أن تخلى عنهم أقرب الأقرباء، وأنسلٌ من حياتهم الأحباب والرفاق ليجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة القدر، مركونبن في غرف أجبرتهم صوارف الزمن على الإقامة فيها منعزلين عن الناس كافة . كان أغلب النزلاء أحد رجلين: رجل تخلى عنه المجتمع وهجره... ورجل تخلى عن المجتمع وهجره... وكان كلا الرجلين بحكم الميت ولا تنقصه سوى شهادة الوفاة. كانت أساريره تهلل فرحا عندما يسمع وقع أقدامي متجهة نحو غرفته إذ سرعان ما ينتعل مداسه، ويهرول مسرعا صوب الباب قادما نحوي ممنيا نفسه بجلسة حديث يفرٌج بها بعضا من كرباته، مطلقا العنان لذكرياته فتنثال أمواج الحزن الدفين رتيبة متباطئة وقد استحوذ خياله الخصب على قلبه سحرا وفتنة. كان كعصفور كهل يغٌرد في قفصه أغنية الوداع. أذكر يوم جاء بطلبه للإقامة في دار رعاية العجزة والمسنين، وكان يسير متباطئا مترددا وقد سيطر عليه الشعور بالعزلة والغربة بعد أن انصرف عنه الناس، كان يرميني بين الحين والآخر بنظرات ملؤها الريبة والحذر بعد أن فقد ثقته بأبناء البشر . وإذا كان شروق الشمس يذكرنا دائما بظلام الليل فإنٌ الحياة أيضا تذكرنا بالموت، ويوم استدعيت إلى دار الرعاية على عجل، وكان الظلام لا يزال مخيما والقمر لا يزال ينير الطريق أمامي، جزعت لذلك النبأ جزعا لم أجزعه قبلا، إلاٌ أنٌها سنة الحياة التي لا راد لها . وجدته في سريره مسجى وقد استسلم للموت بخدر لذيذ، لاشك أنٌ روحه قد فارقت جسده مسرعة كمن يخرج من معتقل، ولاشك أنٌ الفرح كان طيرا يغرد في حدائق قلبه... صمت غير مألوف خيٌم علٌي وعلى بقية العجزة.. وما هي إلاٌ دقائق حتى أخذ العجزة بالتفرق واختفى بعضهم في بطون غرفه، وكانت موسيقى خفيفة مسكرة قد بدأت تنداح من غرفته. وعندما تركت الدار بدا لي الشارع خاويا إلاٌ من أوراق أشجار تلهو بها الريح هنا وهناك.. _________________________ فهرس مواضيع الدكتور عمر فوزي نجاري
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu