المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
منوعات
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب قصة قصيرة، حكايات طبية - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
السترة البنية
د. عمر فوزي نجاري
السترة البنية د عمر فوزي نجاري اعتدت رؤيته مرة في الأسبوع أثناء قيامي بالجولة الصحية الأسبوعية على دار رعاية العجزة والمسنين، كان عجوزا مسنا ذا شخصية لا تنسى لكثرة دعائه وتبتله من ناحية ولغرابة أطواره من ناحية ثانية، ولربما ترك هذا الانطباع عندي لشدة تعلقه بي، وبالأصح لتمسكه بالحياة ممثلة في طبيب يعاينه ويقدم له الدواء والشفاء.. كان ذا ملامح تعبر عن ذكاء وصرامة تذكرني بالأديب الكبير طه حسين، فقد كان ضريرا استبدل نور عينيه بكهفين غائرتين فيهما من ظلمة القبر الشيء الكثير، وكانت الهدوء والرزانة وطول التفكير من صفاته المميزة، فكان إذا تحدث انساب صوته في وداعة وقوة، وكان حليق الذقن والشارب ذا وجه أبيض اكتظ بالتجاعيد كالقماش المكرمش، أمّا فكه فكان بلا أسنان وأمّا أصابعه فكانت معقوفة كمقابض العكاكيز التي تجرجر عميانا... في أخريات أيامه ...صرت كلما ذهبت إلى دار رعاية العجزة والمسنين لأتفقد أحوال النزلاء الصحية، التف حولي المشرفون على إدارة الدار والمستخدمون القائمون على رعاية النزلاء وخدمتهم... يقول لي أبو عمار( مدير الدار): ((يبدو أنّه الخرف يا حكيم ...تغيرات كثيرة طرأت على طباع ( إيليا) مؤخرا...ولم يعد يحتمل)). أبو رامح (المشرف على طعام النزلاء) يقول: ((الطعام لم يعد يعني له شيئا ...لم يعد يطلب الطعام ..ولولا أننا نطعمه بأيدينا ..لعدنا بالطعام كما جئنا به..)). يقول جميل ( المشرف على نظافة النزلاء):((لم يعد يعي ما يفعل؟!..لقد أصبح كالطفل الرضيع ..وما عاد بحاجة للذهاب إلى المرحاض لقضاء حاجته، فهو يتخلص منها في ثيابه الداخلية وعلى شراشف سريره..؟!)). حمدو ( المستخدم المسئول عن نظافة الأرض والجدران ) يقول : الاقتراب من غرفته أصبح أمرا لا يطاق.. رائحة نجاسته تفوح من الغرفة على مدار الساعة ...إذ ما أكاد أنظف الغرفة وأمسح منها الأقذار ...حتى يعاود فعل نجاسته على الأرض ..على الشراشف وحيثما حلّ أو ارتحل .؟! أصبح الأمر لا يطاق؟!. شعور غريب انتابني وأنا استمع إلى شكاوى كل من مدير دار الرعاية والآخرين القائمين على رعاية العجزة والمسنين والنزلاء ، تلك الشكاوى التي بدأ تواترها يزداد مؤخرا لتنمو وتتضخم إلى درجة طلب مني ( مدير الدار ) في إحداها أن أحيل ( إيليا) إلى مشفى للأمراض العقلية حيث يعالج هنالك مرضى الاضطرابات العقلية وخرف الشيخوخة؟!.. لم أكن أملك له سوى قلب أخضر ونوايا طيبة ، في أخريات أيامه كنت أتردد عليه يوميا لأخفف عنه ما استطعت ، ما يعانيه من آلام مرضه ومن آلام غربته ، وحيدا لا قريب ولا صديق له، عدا المشرفين عليه في دار الرعاية ... لست أزعم أنني كنت بقادر على بعث البهجة في نفسه دائما ، إلاّ أنني كنت أحاول ذلك قدر استطاعتي. قبل أن ينقل ( إيليا ) إلى دار الرعاية هذه ، قال لي أحد جيرانه في الحي الشعبي حيث كان يقطن في غرفة مصنوعة من ألواح الصفيح والورق المقوى المدعمة بأحجار مركونة هنا وهناك كي لا تتطاير غرفته مع هبات الريح... وكثيرا ما تهدمت غرفته بفعل العواصف والأمطار وأعيد تركيبها وبناؤها بمساعدة من أبناء الحي .. قال لي:(( منذ فتحت عيني على الحياة وبدأت أعيها ، كنت أرى (إيليا) - ولم يكن ضريرا بعد - يجوب حيّنا والأحياء المجاورة حاملا بيديه صندوقا خشبيا متوسط الحجم يحوي قطعا من البسكويت والسكاكر المتنوعة يبيعها للأطفال ، ومن خلالها يؤمن مصروفه وتكاليف معيشته البسيطة ، وهي عيشة فقر مدقع لا يُحسد عليها ...ولكنه كان سعيدا في حياته التي لم تجبره يوما من الأيام على التسول كسبا للعيش!..)) جار آخر قال لي:(( بعدما أصبح ضريرا ، وقد تجاوز الثمانين ، وربما التسعين، لم يعد بقادر على التجول بحرية كما كان يفعل سابقا، فاكتفى بمهنة البيع مفترشا الأرض قرب عشته المصنوعة من الصفيح والكرتون ...مما جعل عطف أهل الحي عليه يزداد.. وبدأوا يبحثون عن حل لمشكلته ؟!..)) - لابد من نقله إلى دار رعاية العجزة والمسنين، فهي تضم بين جنباتها كل من لا مأوى له، وهناك سيجد من يطعمه ويسقيه ويغسّله ويغسل له.. هذا ما قاله لهم جارهم طلال ، الذي تبنّى متابعة موضوع نقله إلى تلك الدار بعد إجراء الاتصالات اللازمة لذلك مع المشرفين والقائمين على دار الرعاية!.. في زياراتي الأخيرة له ، كنت أدردش معه وأمازحه والبّي له كل طلباته الدوائية، فهو مغرم بالأدوية، فهو يريد قطرة لعينيه اللتين لم يعد ير بهما ...وهو دائما يريد شرابا لإيقاف السعال الشديد الذي أخذ يعاني منه مؤخرا... وهو دائما يريد دواء للبوال الشديد المتكرر الذي أضحى ينكد عليه عيشته... هذا عدا عن المقويات ومسكنات الألم وخلطات الأدوية الأخرى .. عساها تعيد له شبابه؟!. ..وهل يعود الشباب ؟!.. * إلى جوار سريره كان يحتفظ بسترته البنية الغامقة ، وهي سترة قديمة ومهترئة، ولكنه كان متمسكا بها تمسكه بالحياة رغم أنّه لم يرتديها منذ إقامته في دار الرعاية. وكان يرفض أن تؤخذ من جانبه كي تغسل أو تكوى ... كان يريدها إلى جانبه دائما كما هي مهترئة ...قذرة...ومجعلكة؟!. قبل أن يتكلم كان يلعق بطرف لسانه شفتيه الناحلتين ليتمتم بعدها بعبارات قد لا يفهمها الآخرون، ولكنني كنت أفهمها وأدرك معناها...فأترجمها أثناء كتابتي للوصفة الطبية الخاصة به... ذات يوم انفجر في وجهي غاضبا عندما حاولت إقناعه بالتخلي عن سترته إلى ( أمون ) عاملة النظافة كي تقوم بغسلها وكيّها، ووعدته وقتها بسترة أخرى جديدة... يومها اكفهّر وجهه وقطب حاجبيه وبدأ يمصمص شفتيه .. -الجميع يريد أخذ السترة، ولكن لا أحد يريد أن يعرف ما تعنيه لي هذه السترة، لقد كانت رفيقة دربي في هذه الحياة، أعطتني من دفئها ما عجز الآخرون عن تقديمه لي في الأيام الباردة والليالي المظلمة؟!.. هذا ما أجابني به ( إيليا ). *عادت شكاوى المدير والمستخدمين لتقرع طبلة أذنيّ من جديد، ولتتداخل أصواتهم المتعالية المتذمرة.. - اذهب إليه وانظر بعينك ما يفعله؟!.. - يستحيل عليك دخول غرفته، فالرائحة الكريهة المنبعثة منها ستجعلك تفرّ منها ؟!.. - لولا الكمامات التي نضعها على أنوفنا لما كان باستطاعتنا الدخول إلى غرفته وتنظيفها.. فرائحة فضلاته من بول وغائط والمبعثرة في غرفته ..جد كريهة. - لقد استسلم أخيرا لـ(أمون ) وسمح لها بأخذ سترته كي تغسلها وتنظفها وتكويها، ولم يبد لها معارضة شديدة كعادته ؟!.. قصة تخليه عن سترته للمستخدمة ( أمون ) حرك في داخلي ألما عاصرا جعلني أستعيد ذكريات زيارتي الأخيرة له صباح البارحة، فقد كان وجهه بلون الرماد وبدا لي في جلسته على سريره وقد ازداد ظهره تقوسا وانحناء إلى الأمام كمن نسيه الزمن، كان يمصمص بشفتيه وهو غارق في حلم طويل، كان يخاف على الحلم أن يموت إذا صحا على حقيقة أمره ؟!.. توجهت كعادتي إلى غرفته وكان برفقتي أبو عمار وأبو رامح، كانا لا يكفّان عن التعبير عن تذمرهما عمّا آلت إليه حالة ( إيليا ) تلك الحالة التي أصبحت لا تطاق ولا تحتمل..! وكنت أشاغل نفسي بالعبث بقلم كانت تمسكه أصابع يدي اليمنى... كلما ازداد اقترابنا من غرفته ازداد عدد المرافقين لي ..حمدو .. حمادة.. أمون.. وآخرون لم أعد أذكر من كانوا ...كلهم ترك عمله ليتحلق حول غرفة ( إيليا ) ..نظرات محدقة مستفسرة كانت تتابعني، ترى ماذا سيكون قرار الطبيب ؟! .. وهل سيوافق على نقله إلى مصح الأمراض العقلية .. تساؤل كان يراود مخيلة الجميع ما عداي أنا ؟!.. لماذا استسلم أخيرا لـ ( أمون ) وسمح لها بأخذ سترته؟!.. اقترب مني أبو عمار وهمس في أذني : أصبح وجوده عبئا على المستخدمين في دار الرعاية.. من الأفضل إحالته إلى مشفى الأمراض العقلية، كما حدث مع عبد القادر العام الماضي!!.. حمدو: الرائحة الصادرة عن غرفته لا تقارب .. لابد من استعمال معطرات الجو بكميات كبيرة، وهذا مكلف وفائدته محدودة الزمن ؟!.. أبو رامح: برأيي الحل الوحيد لمشكلة ( إيليا ) هي بإحالته إلى مصح الأمراض العقلية؟!.. تركتهم يتهامسون فيما بينهم ويقترحون الحلول، وظللت أنا أسمع وقد ازداد اقترابي من باب الغرفة ...وازداد تعجبي لتنازله عن سترته البنية ؟!.. قال أبو عمار: الأربعاء القادم سيقوم وفد من لجنة دار الرعاية بالسفر إلى حلب لشراء بعض مستلزمات الدار ...بإمكانهم أخذه معهم إلى مصح الأمراض العقلية هناك ؟!.. ابتعدت عنهم ، دخلت الغرفة لوحدي، ...أحسّ بوجودي إلى جانبه، ارتعش جسده بنار مضطرمة وكأنّ مسا من الكهرباء قد سرى في عروقه، كان لا يستطيع الإفصاح في كلامه من شدة التأثر، قال لي: ما أقسى أن يموت المرء وحيدا كالمنبوذ دون عزاء... كانت شفتاه ترتعشان وهما تغرفان من الكلام ...وماذا يملك إذن وهو يودع الدنيا غير غناء الماضي والدموع المنهمرة بغزارة.. كان كبلبل يغرد في قفص مساحته محدودة تغريدا يحلق بروحه المسافرة في الفضاء الواسع الرحب وراء المجهول.... لقد كان الموت عنده كالماء عذوبة ولذة.. تركته مسجى في سريره وظلمته وغادرت البناء إلى الشارع حيث النور والحياة.. _________________________ فهرس مواضيع الدكتور عمر فوزي نجاري
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu