المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
منوعات
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب قصة قصيرة، حكايات طبية - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
أن يقول الإنسان الحقيقة
الأستاذ الدكتور صادق فرعون
خواطر طبية (4) أن يقول الإنسان الحقيقة د. صادق فرعون كانت سعادة " سالم " كبيرة عندما عيّن في ذلك المشفى الجديد والكبير فقد كان طموحه كبيرا في أن يتعلم وأن يغدو يوما ما طبيبا ممتازا يشار إليه بالبنان. وكم تمنى ، إذ كان طالب طب ، أن يصبح يوما ما طبيبا في ذلك المشفى الشهير وهاهي أمنيته قد تحققت . كان يستيقظ صباحا مبكرا ليزور مريضاته وليتابع تطور كل حالة بذاتها وليسجل كل ذلك على أوراق كل مريضة حتى إذا جاء أستاذه رئيس القسم يزور المرضى زيارة سريعة مقتضبة كان يعطيه صورة موجزة ودقيقة عن وضع كل واحدة منهن ، فقد كان سالم طبيبا في مشفى لأمراض النساء . كان عليه كذلك أن يخبر رئيسه هذا عن كل حالة جديدة تقبل في المشفى وعن كل حالة إسعافية وعن تشخيصها ليل نهار. كان يشعر ببعض من التعب والنعاس ولكنه كان يطرد كليهما بشرب قليل من الشاي أو القهوة مقنعا نفسه أن لا وقت لأي منهما . رن جرس الإسعاف وسارع إلى حيث تستقبل مثل تلك الحالات . كانت سيدة سمينة في الثلاثين من العمر ، أجهضت لتوها وهي في الشهر الخامس من الحمل . فحصها وسارع يخبر رئيسه أن الإجهاض ناقص وأنه شعر بأقسام من "المشيمة" ملتصقة في داخل الرحم . سارع الأستاذ إليها وفحصها وأقر تشخيص تلميذه الشاب وأمر بأن تنقل إلى العمليات وسرعان ما قام باستخراج تلك البقايا الملتصقة بالرحم ، تارة بإصبعه وتارة بآلة معدنية تدعى "مجرفة" . لم يكن "سالم" يحب تلك التسمية وكان يعجب في قرارة نفسه ويتساءل : لمَ دعيت مجرفة ؟ فالكلمة تذكره بالمجارف التي كانت تحفر الأرض وتصنع الأخاديد. أتمّ الأستاذ تجريفه وهو يشرح لسالم ضرورة الانتباه وعدم رض أو تمزيق أي جزء من ذلك العضو "النبيل" للمرأة المدعو بالرحم ، ثم التفت المعلم إلى تلميذه وطلب منه بأن يفحص المريضة المخدرة وأن يتأكد من سلامة رحمها في كل أجزائه. فعل سالم ما طُلب منه وفحص جدر الرحم جزءا جزءا وإذا به يشعر في الناحية اليسرى منطقة غير منتظمة أوحت له بأنها تمزق صغير ، كرر فحصه وأطال تلمسه ثم نظر إلى أستاذه ورئيسه نظرة فيها تساؤل وشك ؟ - ما الأمر يا سالم ؟ . أجاب بعد تردد : شعرت أن هناك تمزقا صغيرا في الجانب الأيسر من الرحم . قطب الطبيب المعلم حاجبيه ثم مد أصابعه وأعاد فحص رحم المريضة ثم تكلم بصوت ملؤه الثقة والتأكد : الرحم سليمة ولا شيء مما ذهبتَ إليه ، ثم نظر إليه نظرة فيها الكثير من العتب إن لم يكن من الغضب والانزعاج الصامتين. انتهت العملية وسجل سالم حيثياتها دون أن يشير إلى ما حدث من اختلاف في التشخيص. أُرجعت المريضة السمينة إلى سريرها الذي ما يزال سالم يذكره بوضوح ودقة لم ينقصهما مرور العديد من السنين . راقب سالم نبضها وضغطها وكانا مستقرين . ساءل نفسه لعله كان مخطئا فيما ذهب إليه من تشخيص ؟ وتمنى أن يكون كذلك . تابع عمله الطبي وكرر زيارته لتلك المريضة وكان يلاحظ وجود كمية قليلة من النزف تظهر في كل زيارة لها ، وكان يطلب من الممرضات تغيير أغطية سريرها آملا أن يتوقف النزف في زيارتها التالية. توجس شرا عندما لاحظ استمرار النزف وعدم توقفه رغم إعطائها أدوية تقبّض رحمها . عاوده الشك والتساؤل : ألا يدل ذلك على أن هناك تمزقا ولو صغيرا في تلك الخاصرة اليسرى للرحم التي شعر بها في أثناء فحصه لها ؟ فكّر أن من الضروري إعلام رئيسه عنها وشعر بخوف وأحجم عن ذلك ولكن تكرر النزف منحه شجاعة فاتصل بأستاذه وشرح له أن المريضة تلك ما تزال تنزف وبشكل مستمر وسأله ماذا يستطيع أن يفعل لها لإيقاف النزف. لم يجرؤ أن يكرر على مسمع أستاذه احتمال وجود ذلك التمزق الصغير الذي شعر به خيفة أن يُوبخ أو أن يُتهم بالجهل والتطاول على من هو أعلى منه كثيرا بالعلم وبالخبرة بل من يدري لعله يُطرد من عمله. سمع صوت رئيسه يؤكد له أن لاشيء آخر تحتاجه تلك المريضة سوى تكرار إعطائها أدوية مقبضة للرحم . كان في صوته حزم وتأكيد بل ووعيد مبطّن. أعاد سالم سماعة الهاتف ورجع يعتني بالمريضة ويعطيها المصول عن طريق الوريد . صحيح أن النزف قليل الكمية ولكنه مستمر ويتكرر بعناد وتصميم أقلق نفس الطبيب الشاب الطامح لمستقبل طبي زاه. استمر النزف على حاله ، قليل ولكنه عنيد لا يخف ولا يتوقف . كان سالم يحدث مريضته ويسألها عن حالها وهو يشعر في قرارة نفسه أنه عاجز عن تقديم أية مساعدة حقيقية ومنقذة لها فقد تعلم أن وجود أي تمزق في الرحم يقتضى عملية جراحية تستأصل الرحم أو تخيطه . كانت المريضة تجيبه بأنها مرتاحة ولكنها تشعر بوهن متزايد. لم ينم الطبيب الشاب كل تلك الليلة الليلاء فقد كانت بقع الدم الأحمر الزاهي تتكرر في الظهور كلما تمّ تبديل الأغطية . كان سالم يخاف كثيرا من اللون الأحمر وكان يتصوره بعبعا مخيفا أو عدوا شرسا لا يهادن ولا يسالم إلا بعدما يتمكن من قتل فريسته ومن إيقاف آخر نفَس لها وآخر ضربة قلب. لكم كان سالم يكره الموت ويكن له حقدا كبيرا لاسيما عندما يكون متلفعا بذلك اللون الأحمر الزاهي ، لون الدم الذي هو رمز الحياة والحركة . سهت عين سالم وكبا على الطاولة وهو يكتب ملاحظاته عن تلك المريضة الشابة الوديعة وأغفى قليلا فقد غلبه النعاس والإعياء عندما أيقظه صراخ الممرضة وهزها العنيف لرأسه المستند على الطاولة الخشبية . – أسرع يا دكتور فالمريضة تنزف بشدة وبشكل مفاجئ. ركض إلى مريضته الوديعة فإذا بها تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تسبح في بركة من الدماء الزاهية الشديدة الحمرة . نظرت إليه طويلا وكانت نظرتها بليغة في معناها ونافذة في قوتها إذ شعر بها تخز قلبه وخزا مؤلما ثم لفظت نفسها الأخير دون أن تنطق بأية كلمة. كانت شعاعات الفجر تتسرب من نوافذ الغرفة وكان الصمت المطلق يسيطر على البناء فالجميع كان نائما ما عداه وتلك الممرضة الشابة . شعر سالم بألم واخز في صدره واختلطت عليه الرؤى والأفكار . تردد هل يفعل ما خطر على باله أم يحجم ؟ ثم طلب بصوت خافت من الممرضة أن تأتيه بقفازات طبية أدخلها في يديه وأعاد فحص رحم تلك المريضة التي مازال جسمها دافئا وطريا . شعر بذلك التمزق الصغير في الخاصرة اليسرى من الرحم الذي سبق له أن شعر به في صباح اليوم الفائت وتأكد أنه لم يكن مخطئا فيما شعر به . غطى الطبيب والممرضة المريضة المتوفاة بأغطية سريرها البيض فغطت الأغطية بركة الدم الأحمر المتجمع تحتها . نٌقلت المريضة إلى حيث يوضع الموتى ريثما يبلغ الأهل عن الوفاة ويأتوا لاستلام مريضتهم التي دخلت مريضة وخرجت جثة. دخل سالم إلى غرفته وشعر برغبة جارفة في أن يبكي ولكن دمعه كان عصيا فقد أدرك أن من أهم واجبات الإنسان بله الطبيب أن يجهر بالحقيقة أو بما يعتقد أنه الحقيقة حتى لو كلفه ذلك مستقبله بل وحياته. مرت بمخيلته صور العديدين ممن قضوا شهداء وضحايا للجهر بالحقيقة . وبرزت له صورة " كوبيرنيكوس " الذي أحرق لأنه جاهر بالحقيقة قائلا إن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس . فكّر طويلا أن أهم عنصر في حياة الإنسان هو "الحرية" ، حرية أن يعبّر الإنسان عن رأيه وأن يتحمل "الآخر" أو "الآخرون" هذا الرأي المخالف مهما بدا غريبا أو مثيرا أو بعيدا عن التصديق. أدرك سالم أن تقدم الشعوب رهن بتوفر مناخ الحرية ، حرية التعبير والقول والعمل دون خوف من أن يحرق الإنسان حيا. تمنّى سالم أن يأتي يوم تتوفر فيه تلك الحرية للجميع وأن تزول تلك الرهبة كلما حاول الإنسان أن ينطق . وتساءل : هل يا ترى سيأتي مثل هذا اليوم ؟ وما زال تساؤله هذا يراوده ويعاوده حتى يومه. د. صادق فرعون . _________________________ فهرس مواضيع الأستاذ الدكتور صادق فرعون
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu