المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
منوعات
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب قصة قصيرة، حكايات طبية - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
عفا الله عنه
د. عمر فوزي نجاري
د عمر فوزي نجاري يقولُ محدثُنا -وهو بطل الرواية وراويها-(عفا الله عنه)- ما حدثَ معي، ما كُنتُ لأتذكره لو لم يتكرر حدوثه معي على مدى أشهر معدودات منتصف عام ثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، ما حدث معي كان واقعاً إنسانياً عشته في ذلك الزمن الغارب، في ذلك المكان البعيد، إنّ ما جرى معي في تلك الفترة من الزمن لا يعدو كونه اختبار ربّاني لمعرفة مدى تحمّل البشر بعضها لبعض!. يومها كُنتُ طالباً في كلية الطب البشري في جامعة دمشق، وقد شاءت الأقدارُ أن أكونَ من قاطني الوحدة السكنية الأولى في المدينة الجامعية، وهي لمن لا يعرفها، أقدمُ بناء سكني لطلاب الجامعة وأشهرها على الإطلاق، وتقعُ في عشر طوابق، ولكل طابقٍ جناحان طويلان كجناحي نسرٍ أفردهما محلقاً ومستريحاً في أعماق السماء. أن تتمكنَ من الحصولِ على سكنٍ جامعيٍ، ليسَ بالأمرِ السهلِ بل يتطلبُ الأمرُ وساطاتٍ ليست باليسيرةِ، وربما محسوبياتٍ و ولاءات لا يُدركها إلاّ القليل من الطلبة، وبما أنني لم أكُن في يومٍ من الأيام من ذوي المحسوبيات أو الولاءات، فقد تأخر قبولي في السكن الجامعي حتى بداية الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي!.، وما يعنيه ذلك من عدم تمكني من الحصولِ على سكنٍ جيدٍ ورفقة جيدة. في الطابق التاسعِ -قبل الأخير- وفي آخر غرفةٍ من الجناحِ الأيمنِ للبناءِ كانَ سكني وكان يرافقني الغرفةَ طالبٌ من كليةِ الاقتصاد، وفي الغرفة الملاصقةِ لنا طالبانِ أحدهما يدرس الطبَّ، ولكلا الغرفتين شرفةٌ واحدةٌ ودارة كهربائية واحدة. كُنّا أربعة طلاب في غرفتين متجاورتين بشرفة واحدة مشتركة، كنا أربعة أمزجة متفاوتة يصعب إيجاد نقاط مشتركة فيما بيننا، لكل منّا مزاجه الخاص ورؤيته الخاصة. كُنتُ وطالبُ الطبِّ الآخرِ في الغرفةِ المجاورة ممن يُفضّلُ النوم باكراً والاستيقاظَ باكراً، أمّا الآخران فكانا ممن يُفَضّلُ السهرَ حتى ساعاتِ الصباحِ الأولى ليقضيا نهارَ اليومِ التالي نياماً. جارنا في الغرفة المجاورة -طالب الطب- من عادته عندما يستيقظ صباحاً باكراً أن يستمعَ للمذياعِ بصوتٍ عالٍ ويقومُ أثناءها بحلاقة ذقنهِ ثم تصفيفَ شعرهِ مستعملاً (السيشوار) ذي الصوت المرتفع حيث يختلطُ ضجيجهُ بصوتِ المذياعِ مولداً ضجيجاً لا يُحتَمَل يُعَكّرُ صفوَ هُدُوءِ الصباحِ و يُزعِجُ كلَّ من يصلُ إليهِ الصوتُ من المستيقظينَ باكراً فما بالُكُم بالنيامِ، وكانَ الأمر يتكّررُ يومياً ولمدة غالباً ما تطولُ ولا تقصُرُ!. هوَ جارٌ باطلٌ ما كان يعملُ، فهوَ يختارُ فقط ما يتناسبُ مع مِزاجِهِ دونَ تقديرٍ لمزاجِ الآخرينَ أو راحتهم مما ساهمَ في إشعالِ فتيلِ العداءِ بينه وبيننا، وتحوّلت معها ساعةُ إشراقِ شمس الصباحِ إلى أزمةٍ فيما بيننا وبينه، ولم نستطع بالحوار الحضاري إيجاد حلٍ مناسبٍ لها، فهو مُصّرٌ على سماع أخبار الصباحِ من المذياعِ بصوتٍ مرتفع وتصفيف شعره مستخدماً (السيشوار) بهديرِ ضجيجهِ كمولدة كهرباءٍ ذات استطاعةٍ عاليةٍ تعملُ بالمازوتِ، وبدأت علاقتنا تتحولُ إلى عداء مميت. شعرتُ بمعاناة الجوار، و وجدتُ من واجبي أن أسعى لتدارك الأمر قبل أن يفلتَ الزمام، ذلكَ أنّنا إذا بقينا على ما نحن فيهِ وعليهِ فمآلًنا جميعاً إلى الخصومةِ والعداوةِ. كانَ عليَّ أن أتفاءلَ ولا أقنُط أو أيأس وقد تذكرتُ جواب سيدُنا (موسى) عليه السلام لقومه عندما قالوا له: (إنّا لمدركون) فما كان جوابه إلاّ أن قالَ لهم: (إنَّ معيَ ربّي سيهدين). وبما أنّ الحكمة القائلة: (من فعلَ ما شاءَ لقيَ ما ساءَ) لم تأتِ العدم، ولمّا كانت الضرورات تبيحُ المحظورات، ولمّا كانت نيتي أن أقطع دابرَ الفتنةِ من أصلها، فقد هدانيَ اللهُ إلى حلٍ لا أعتقدُ أنّهُ قد خَطَرَ على بال بشر!. تسلّحتُ بالحكمةِ القائلة: (كُن صموتاً فالصمت حذر) واتجهتُ نحو أقرب بائعُ أدواتٍ كهربائيةٍ في المنطقة حيث اشتريتُ قابساً كهربائياً مذكراً (ما يُطْلَقُ عليهِ بالعاميةِ فيش كهربائي مذكّر) وقمتُ بوصلِ قُطبيهِ السالبُ والموجبُ بسلكٍ نحاسي ثخينٍ!. كانت قواطع كهرباء الغرف وعدّاداتها تقعُ إلى جانبِ المِصعَدِ ودورات المياهِ وتبعدُ عن غُرفَتينا ما يُقاربُ الخمسينَ متراً، وهي مثبّتةٌ في مكانٍ مرتفعٍ يَصعُبُ الوصولُ إليهِ دون استعمالِ سُلّمٍ طويلٍ، وما عليكم إلاّ أن تتخيلوا مدى المعاناة التي كانَ يتحمّلُها جارُنا -طالبُ الطبِّ- صاحبُ (السيشوارِ) ولعدة مراتٍ يومياً صباحاً وعلى مدى أشهرٍ معدوداتٍ (هي فترة الفصلِ الدراسي الثاني)، إذ ما أن تصدحُ سيمفونيته الصباحية (المذياع والسيشوار) بضجيجيها المعهود حتى يعودَ الهدوءُ ثانية لِيَلُفَّ أجواء غرفتينا والغرفَ المجاورةَ بسبب انقطاعِ التيارِ الكهربائي عن غرفتينا المشتركتين بدارتهما الكهربائيةِ، وبما أنّهُ الوحيدُ من بيننا من يحتاجُ للتيار الكهربائي ليكمل تصفيف شعرهِ المبلل بالماء، فقد كان مجبراً على الخروجِ من غرفتهِ برأسه المبلل بالماءِ وبيده اليمنى كرسيُّ مرتفع وباليسرى قشاطةُ ذاتُ عصا طويلة (وهي التي كان الطلبةُ يستعملونها لتنظيف غرفهم) متجهاً نحو مطلعِ الدرجِ حيث باب المصعدِ والحمامات ودورات المياهِ، مشحشطاً قدميهِ بشحاطتهِ البلاستيكيةِ قاطعاً مسافة الخمسين متراً وصولاً إلى القاطع حيث يقفُ على الكرسي الذي أحضرهُ محاولاً إعادةَ القاطعِ إلى مكانه باستعمال القشاطة ذات العصا الطويلة بيده اليسرى!، وقد تصبّبَ عرقاً، ليقومَ بعدها بغسلِ رأسهِ من جديد ولِيُعاود الكرّة ثانية لتصفيفِ شعرِهِ بالسيشوارِ والذي ما إن يبدأُ ضجيجُهُ بالإزعاجِ حتى ينقطعَ التيارُ الكهربائيُ ثانيةً وليعاودُ صاحبنُا طالبُ الطبِّ رحلتهُ السابقة. تخيلوا معي رحلة المعاناة هذه التي كان هذا الطالبُ يقومُ بها عدة مرات يومياً ريثما يتمكن من تصفيفِ شعرهِ وعلى مدى أشهرٍ معدوداتٍ!. كان (القابسُ الكهربائيُّ المذكّرُ) سلاحي، أضعُهُ في جيب سترتي دائماً، استعملُهُ عندما يبدأُ الضجيجُ المعتادُ، حيث ما إن أضعُهُ في المأخذِ الكهربائيّ الموجودِ في غرفتنا حتى يحدث ماس كهربائي يؤدي إلى قطع التيار الكهربائي عن الدارة المشتركة لغرفتينا. مضى العامُ الدراسي وتفرقنا وذهبَ كلٌّ منّا إلى بلدتهِ وحيث يقطن ولم نلتقِ منذ ذلك اليوم البعيد، وقد مضى عليه أكثر من أربعة عقودٍ من الزمن، وأصبحَ ما كان يحدثُ يومياً حُلمُ حالمٍ لم يكن يعلمُ سببُهُ إلاّ الله وأنا، عفا الله عنّي. بقلم د عمر فوزي نجاري _________________________ فهرس مواضيع الدكتور عمر فوزي نجاري
05/05/2022
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu