المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
منوعات
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب قصة قصيرة، حكايات طبية - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
الموتى لا يحلمون
د. عمر فوزي نجاري
الموتى لا يحلمون في هدأة من الليل وسكونه عاودته الذكرى واعتصره الألم فبكى وطناً بلا أمل وانداحت الدموع سخية من عينيه لتغسل ما تبقى من الشرف المسحوق بالأقدام، كما تسحق الرحى حبات القمح الخيّرة. كنا نجلس سوية على صخرة تلطمها بين الفينة والأخرى أمواج البحر الهادر تحت الأقدام … نرقب الزبد المتلاشي على رمال الشاطئ، وقد انعكس ضوء القمر المتلألئ على صفحة المياه المتأرجحة المتوثبة… تنهد بعمق، سرح بصره في أعماق الأفق البعيد، استرجع ذاكرته واستجمع فكره، دعك ذقنه بتؤدة وروية، وانساب الكلام على لسانه وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح: همٌّ وبلاء تنوء عن حمله كواهل الرجال، فما بالك بطفل غض طري لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، لم يعرف من الحياة إلاّ حنان الأمومة وعطف الأبوة، وزمالة الأتراب، واللعب مع الأولاد… كان يتحدث لي غارفاً من ذاكرة عجنتها الأيام والسنون، ولم تزدها التجربة الإنسانية إلاً حيوية ونضارة فاستوعبت واختزنت، وعند النضج أجادت وأبدعت … - كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً أو يزيد، يوم اضطرتني الأيام للمثول أمام ذلك الكائن الغريب، والذي لم يكن قطعاً من بني البشر، كما لم يكن وحشاً عادياً، فأنا لا أذكر أنني قرأت أو سمعت عن وحش كهذا، كان كتلة من اللحم والشحم والعظم أعيد تركيبها بعد أن أجريت عليها معاملات خاصة لتنقيتها من كل المعاني والقيم التي تمت إلى الإنسانية بصلة الرحم والقربى…. توقف عن الكلام قليلاً… أخذ نفساً عميقاً وجال ببصره في أعماق السماء وكأنه يستجمع قواه وذاكرته ليتابع حديثه : كان رجلاُ ربعة القامة بديناً امتد كرشه أمامه، داكن لون البشرة ذا عينين ملونتين يشع بريقهما بلؤم من نوع خاص، كان كالهر المنتفخ يدير رأسه ذات اليمين وذات الشمال عساه يحاكي صولة الأسد، ثم سرعان ما حدق بي بعينين حاقدتين… ليبدأ بطرح أسئلته التي لا تنتهي… أسئلة كانت أجوبتها معدة مسبقاً عنده ومحفوظة. وعندما بدأ الرجل الربعة بالكلام كان لسانه يتحرك في فمه كالأفعى، يراوغ فيه مراوغة أفاعي الثرى لا تصحو إلاّ على نفث سمومها، وقد أصم أذنيه عن سماع كلمة حق واحدة، ولم يدخر لنفسه من صفات البشر إلاّ حثالتها. وقبل أن يكمل صديقي حديثه أحسست بالمرارة في حلقي وقد جفّ لساني ولم أجد ريقاً ابتلعه فاكتفيت بالنظر إلى مياه البحر المالحة وقد علاها رغاء الزبد، وأمّا صديقي فكان شارد الذهن غير مكترث بما حوله حتى لكأنه يعيش في عالم آخر غيّبته السنون والأيام. -إذا كان للبعض وجهان أو أكثر فإنّ اليقين فيه أن ليس له سوى وجه واحد أشبه بوجه البوم في ليلة ظلماء، والمراوغة في الكلام والمقدرة على صياغة أباطيل التهم وإلصاقها بالمتهمين الأبرياء ميزة لا يجاريه بها أحد سواه، فالبريء عنده متهم ولو ثبتت براءته، والبراءة كلمة غير موجودة في قاموسه اللغوي ولا معنى لها؟. زفر زفرة طويلة أعقبتها آهة أطول… كان وحيداً رغم رفقته، لا يملك سوى دموعٌ تحجّرت في مآقيها.. نظر إليّ نظرات تعجز الكلمات عن التعبير عن معانيها.. ثم استطرد قائلاً: أتدري ماذا كانت نتيجة المحاكمة؟!. لقد قيل في حيثيات الحكم: نحن نحاكم ضميرك، ونحكم عليك من خلال ما يمكن أن تفكر به حتى ولو لم تصّرح بما فكرت وبما ستقول وبما ستعمل.. وبماذا يمكن أن يفكر فتىً يافع في الخامسة عشرة من عمره؟ وبماذا يمكن أن يحلم؟. وماذا يمكنه أن يفعل؟. لقد حاكموا حلمي وعاقبوا طفولتي وقتلوا إنسانيتي . لقد زُج بي في زنزانة مفردة، مظلمة كليل الشعراء، مجردة عن الزمان والمكان، تفوح منها روائح الرطوبة والنتانة والموت الأبدي، في هذه الغرفة كان المستقر حيث لا مكان للاستقرار ولا جليس للسمر أو الكلام . بحثت ملياً في مختلف الأركان، في شقوق الليل في عتمات الظلام عن نديم أشكو له الحال ليخفف عني بعض الآلام ..ولكن عبثاً كنت أبحث، فالبلابل توقفت عن التغريد، حتى الضفادع لم تعد تنق…. لم أعد اسمع سوى إيقاع أقدام زبانية الجحيم، هل كنت حقاً في الجحيم؟.. أنا لم أفعل من الحرام شيئاً أبداً؟. كانت السادية مبدأهم والهمجية شعارهم، إذ كانوا يجدون لذة باطنية في تطبيق مختلف أصناف التعذيب الجسدي والنفسي .. كيف تمّ ذلك لا أدري ولكنّها الحقيقة المّرة التي قصمت ظهري… والحرية كلمة لم يعد لها وجود في القاموس الأزلي لعالم الجحيم الذي كنت أحياه، ومن يقدر على منحك حريتك إذا كنت تعيش في مجتمع يحكمه العبيد؟.. فالحرية لا يمنحها من فقدها ومن كان حذاء للغير لا يمكن أن يكون قدماً للحرية، فكيف بحذاء صنع من جلد البشر واستبدل النعل فيه بالضمير.. رفع صديقي بصره إلى أعماق السماء ليختم حديثه قائلاً: لاشك أنّ دورة الزمن قد توقفت وإلاّ لما طال الليل واستّمر الظلام وغاب القمر، ولما حطت السماء في الأرض وصعدت الأرض إلى السماء، ولما تحولّ الجليد إلى جحيم، إنّه زمن الحقد على الورود.. أخذت أتأمل ملامح وجهه وقد شغلتني كلماته الأخيرة فقد كنت مطمئناً لبزوغ فجر يوم جديد اطمئناني لشروق الشمس كلّ صباح، فالغد قادم لا محالة وتوقف الزمن لن يطول. عاد إلى نفسه ليسألها: هل هو في حلم؟.. ويأتيه الجواب من أعماق الوجود: لا فالموتى لا يحلمون.. _________________________ فهرس مواضيع الدكتور عمر فوزي نجاري
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu