المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب قصص من تراث اللاذقية - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
قرب العصافيري
د. عمر فوزي نجاري
قرب العصافيري قرب العصافيري قرب ((الريجي القديم )) ذلك البناء الضخم الذي هو أشبه ما يكون بسجن كبير يتلقف صباح كل يوم عشرات النسوة العاملات ثم ما يلبث يلفظهن بعيد العصر لينتشرن في الطرقات والأزقة المحيطة به وهن تتبادلن الأحاديث والنظرات مسرعات نحو بيوتهن في القرى والأحياء الشعبية المجاورة، قرب الريجي القديم وإلى الغرب منه قليلا كنا نقطن، وقد غلب على هذه المنطقة لقب ((الريجي القديم )) رغم أنّها ليست سوى جزء من حي أوسع واشمل يعرف باسم ((حي الشيخ ضاهر )) وقد التصق لقب القديم بالريجي بعد أن تم تشييد بناء آخر جديد في حي آخر بعيد يقع في المدخل الشرقي للمدينة، ومنذ ذلك الوقت أصبح الريجي القديم بناء مهجورا تآكلت جدرانه واهترأت نوافذه وأبوابه وليس فيه ما يشير إلى الحياة سوى ما يلفظه يوميا من فئران وجرذان.. وما ذكَرَته لي جدتي من قصص وحكايا عن الأفاعي والوحوش المفترسة التي سرعان ما تنهش كل من يتعدى حرمة هذا البناء المهجور... في مواجهة بوابة الريجي القديم يقع (( فرن الكيلو)) حيث كنا نلتقي فجر كل يوم قبل الذهاب إلى المدرسة، وبانتظار دورنا في الطابور الطويل كنا نتبادل الأحاديث والنكات وأحيانا نمارس مشاغباتنا الصبيانية، ينحشر خليل بين الرجال متجاوزا دوره ليشتري حاجتنا من الخبز معا ثم سرعان ما ينسل من بينهم، نسير معا على الرصيف المقابل للريجي، نتراكض متجهين كل نحو منزله وفي فم كل منا قطعة خبز ساخنة شهية يلوكها ويمضغها. نحمل حقائبنا ونتجه نحو مدرسة الحي (( مدرسة الشريف الرضي )) دقائق قليلة تفصلها عن المنزل، وأمامها يوجد بستان كبير فيه تين ورمان، وتبقى شجرتا الآس وحدهما في الذاكرة ، ،، خليل يحب (حب الآس) يتسلق سور البستان، يملأ جيوبه من حب الآس... يلحق بي وفي عينيه نظرات انتصار صريحة... الميناء الصغير حيث يضع الصيادون قواربهم قرب ((مطعم العصافيري)) لا يبعد عن المدرسة أكثر من دقائق معدودة، وفي طريقنا إليه نجتاز حديقة (المارتقلا) ثم سرعان ما ينكشف أمامنا (الكورنيش الغربي) حيث ترقد المطاعم والمسابح والمتنزهات... وإلى جوار (مطعم العصافيري) نسلك دربا ترابيا منحدرا ينتهي بنا حيث قوارب الصيد والشاطئان الرملي والصخري... نمارس هوايتنا...نعبث بالماء... نجمع القواقع ونصطاد أسماكا صغيرة ..ويمر الوقت دون أن نشعر... شيخ قوسّه الزمن وبلغ من الكبر عتيا يجلس إلى جانب قاربه وبين يديه شباك صيد يعمل على ترميمها، يرمقنا بنظراته بين الحين والآخر مبديا امتعاضا وقلقا .. - ابتعدا عن الشاطئ الصخري... البحر غدار.. قد يبتلعكما دون أن يشعر بكما أحد؟!. كنّا نظن البحر نهاية الدنيا... لنا قرب شاطئيه الرملي والصخري ذكريات لاتنسى... فوق الجانب الأيمن من الشاطئ يجثم مطعم العصافيري الضخم مرتفعا عن مياه البحر وقد شمّر عن أطرافه الثمانية الطوال الممتدة نحو أعماق البحر مثل سرطان بحري كبير يرقب الأفق اللامتناهي حيث يبتلع البحر قرص الشمس عند مغيبها يوميا كما يبتلع بين الحين والآخر أطفالا أَمِنوا جانبه فجاءوا إليه ليستمتعوا بالخوض والسباحة في مياهه والعبث بأصدافه ورماله وحصاه... بأسماكه الصغيرة وسلاطعينه المنتشرة بين الصخور... ولعّل الفرحة الكبرى تكتمل عند رؤيتهم إخطبوطا بأذرعه المتعددة يتلّوى بين يدّي صياد تمكن من انتشاله من أعماق البحر...حيث يقوم الصياد بخبطه على الصخور خبطات عديدة كي يتمكن من شلّ حركته ليقوم بعدها بسلخه كي يصبح جاهزا لوجبة لذيذة ؟!.. من شرفة العصافيري الكبيرة حيث تجلس مجموعات من العائلات مع أطفالها يتناولون الطعام، يدخنون النرجيلة، ويتبادلون الأحاديث ويستمتعون بمنظر البحر والصيادين والأطفال...يقذفون بالخبز نحو البحر.. غذاء للأسماك ليستمتعوا بمنظر الأسماك تحيط بقرص الخبز تقضم منه فيدور ويدور كمروحة في يوم عاصف... إلى أن يتفتت قرص الخبز بفعل القضم وحركة مياه البحر..! يعاود الشيخ نظراته الممتعضة نحونا... نشعر بضرورة الإسراع في مغادرة المكان قبل أن يتأخر الوقت أكثر فأكثر... فالوقت يمضي مسرعا دون أن نشعر به... نعود أدراجنا معا... خليل يدندن وهو يتناول ما تبقى في جيوبه من حبات الآس، وبين يدي كل منّا وعاء معدني صغير جمع فيه بضعة أسماك وأصداف وحصى بألوان متعددة جميلة، وكل منّا يمنّي نفسه بتربيتها في منزله في حوض كبير أعّده لذلك... أبي يستقبلني غاضبا: ألم أنهك عن الذهاب إلى شاطئ البحر وحدك !... يومها كان يتبادل الحديث مع والدتي التي بدا عليها عدم الرغبة في الرحيل... - إنّها ضريبة العمل الحكومي يا أم عدنان فقد تقرر نقلي إلى مدينة مصياف وسألتحق بالعمل هناك خلال أسبوع...هيئي نفسك والأولاد للرحيل والإقامة هناك !.. · كانت إقامتنا هناك في الحي الشمالي قرب السور القديم... وكانت منطقة لعبي مع أبناء الحي تمتد حتى القلعة... كنت أحكي لأصدقائي الجدد عن البحر والسمك والسلاطعين، وعن خليل وحوض أسماكه...كنت أعدهم وأمنيّهم ... -ماذا تفعل يا خليل؟!.. -أريد أن أقفز نحو تلك الصخرة وسط البحر.... -حذار يا خليل فهي بعيدة ، قد لا تتمكن من الوصول إليها ؟!.. كان خليل يصلها بقفزة واحدة ويعود منها بقفزة أخرى... كان خليل الوحيد بين أصدقائي القادر على الوصول إلى تلك الصخرة، هذا ما حدثت به أصدقائي الجدد في مصياف... هل منكم من يريد التعرف على خليل ورؤية البحر...؟ .. في رحلتنا المدرسية إلى اللاذقية سنزور خليلاً وسيذهب معنا إلى البحر وسيريكم كيف سيصل إلى تلك الصخرة البعيدة بقفزة واحدة... لا أحد يفعل ذلك سوى خليل... قرب العصافيري هبطنا عبر الدرب الترابي المنحدر حيث الشاطئان الرملي والصخري وقوارب الصيادين والشيخ العجوز المقوس لا يزال يرمم شباك الصيد... والصخرة النائية كجزيرة وسط الماء لا تزال مكانها تتحدى سكون البحر وأمواجه... وتتحدى بطولات الأطفال وأحلامهم في القفز متجاوزين مسافة الماء التي تفصلها عن الشاطئ الصخري... كان خليل يقول : انتظرني هنا، سأقفز إليها، ومن تجاويفها وفجواتها سأجمع أكبر وأجمل القواقع والأصداف وسنقتسمهما معا... ومع كل قفزة وحركة يقوم بها خليل كانت نظرات الشيخ المّقوس الظهر ترمقنا ثم سرعان ما ينهرنا ملوحاً ومهدداً ومنذراً بالابتعاد عن المكان.... ويعود خليل مسرعاً بقفزة واحدة وقد ملأ وعاءه المعدني بالأصداف والقواقع... ومع اقترابنا من الشاطئ الصخري حيث ماء البحر الفاصل بينه وبين الصخرة النائية ينهض الشيخ المقوّس الظهر ليسير في اتجاهنا بتثاقل واضح ملوحاً بيديه صارخا بصوت مبحوح : ابتعدوا يا أبنائي عن الشاطئ الصخري فالبحر غدار.. لا أريد أن أرى مزيداً من ضحاياه ... البارحة ظهرا يا أبنائي كانت آخر ضحاياه .. صبيا عشق البحر.. كان يزوره يوميا ليجمع القواقع والأصداف من على صخوره حيث تقفون.. كانت جيوبه ملآى بالقواقع والأصداف وحبات الآس ؟!.. ولم تفلح جهودنا في إنقاذه .. ابتعدوا يا أبنائي فالبحر غداّر... كان يوماً طويلاً بدا كأنّه لن ينتهي وقد تكسرت فيه أمواج البحر وماتت... ولكّن البحر بقي ولم يمت.. ولا يزال فاغراً فاه ليلتقم المزيد من الأطفال... ولم يعد هناك من يتحدى بالقفز على الصخرة النائية...وأصبحت قواقع وأصداف تلك الصخرة بمأمن من عبث خليل... كنت كلما مررت قرب مرفأ الصيادين أو جلست مع والدّي مستريحا في مطعم العصافيري تذكرت خليلاً الذي ابتلعه البحر... ذكرى ألم يعتصر قلبي... والآن وبعد مرور سنوات طوال وقد ردم ذلك الميناء الصغير وأزيل كل أثر لشاطئيه الصخري والرملي ولتلك الصخرة النائية، وأنشئ مكانه حديقة يلعب بها الأطفال، أجلس هناك على مقعد خشبي ليسرح نظري عبر الأفق الممتد وراء مياه البحر حيث تنتهي الدنيا!... _________________________ فهرس مواضيع الدكتور عمر فوزي نجاري
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu