المقدمة
أراء طبية حرة
شعر
قصة قصيرة، حكايات طبية
أقلام حرة
أسئلة متنوعة و متكررة
في رثاء الراحلين
حقوق الانسان بالاسلام
فن و موسيقا
منوعات
روائع نزار قباني
رياضة الغولف Golf
من التراث العربي
قصص من تراث اللاذقية
مخطط الموقع
باب في رثاء الراحلين - الصفحة (8) - كل ما لا علاقة له بالطب - منوعات
رحيل صادق فرعون خسارةٌ وطنيةٌ
رحيل صادق فرعون خسارةٌ وطنيةٌ د. غالب خلايلي صديقٌ صدوقٌ كبيرٌ آخرُ يترجّل في دمشق يوم السادس من أيلول 2017، بعد عقودٍ من النّضال في حقول الطبّ والأدب والموسيقى، وشعورٌ عميقٌ بالفقد واليتم والبرد في عزّ الحرّ. نعم، رحل الأستاذ والطبيب النسائي والموسيقي المبدع والكاتب المتنوّر صادق فرعون، المولود في دمشق عام 1928. جمعتني بالراحل عُرى المودّة والصداقة، بعيداً عن الطبّ، فالأستاذ فرعون انتقل إلى مستشفى الزهراوي، وأنا ما زلتُ في سنة الطب الثانية عام 1979. فبعد عهدٍ من كتابتي في مجلة طبيبك (منذ 1986 عند المرحوم سامي القباني) بدأ الأستاذ فرعون يكتب موضوعاته المتميزة في المجلّة ذاتها، ولكني لم ألتقِ به إلا مصادفةً وبعد سنوات، في أمسيةٍ موسيقية في دار الأوبرا بدمشق، لتتأسّسَ بعدها صداقة وطيدة، عرفتُ فيها ميزات هذا الراحل العظيم، الذي لو عرف الناس صفاتِه الحميدة كلَّها لبكَوه طويلاً، بسبب ندرة هذا النوع من البشر، وصعوبة تعويض الخسارة الفادحة. هل في قولي مبالغة ما؟ أبداً، فالراحل الذي قارب التسعين عاماً، كان يأتي ماشياً بهمّة الشباب من بيته في البزم إلى عيادته قرب البرلمان، وكان موسوعةً متنقّلةً، ورجلاً شديد التواضع شديد الشغف بالقراءة بلغاتٍ مختلفة، وكان أشدّ التزامه بقضية الأمّة (فلسطين)، يقرأ كل ما يخصّها بدءاًمن التوراة والتلمود وبروتوكولات حكماء صهيون...... وانتهاء بموسوعة عبد الوهاب المسيري عن اليهودية الصهيونية، التي قام بتلخيص أجزاء كثيرة منها بنحو 300 صفحة من القطع الكبير، وراح ينشرها أولاً بأول مستنهضاً الوعي والهمم، مستخدماً وسائط العصر الحديث في التواصل بكل كفاءة، حتى يظنّ من لا يعرفه أنه شاب فلسطيني متحمّس وُلِد في عصر التقنية، والحقّ يقال: كان فرعون فلسطينياً أكثر من أي فلسطيني، دون أن ننسى أنّ فلسطين هي جزء غالٍ من سورية الحبيبة. تميز الراحل بسرعة قراءته لأي كتاب أو رسالة، وكذا بسرعة الرد مع التعقيب اللازم، ولم أعرف مثل هذا النموذج من قبل إلا عند ندرة من البشر، منهم الراحل عبد السلام العجيلي، ولكن بالبريد العادي، ومن محاسن الصدف أن العجيلي -رحمه الله- كان أيضاً من كتّاب (طبيبك). *** يتحدث الأستاذ عن نفسه في رسالة كتبها عام 2010 فيقول: " كان من العوامل التي شجعتني على دراسة الطب هو أن جدّي لأمي كان طبيباً (د. توفيق الخطيب) ومن خريجي الآستانة. كنتُ أراقبه بشغفٍ وأنا طفل صغير وهو يعالج مرضاه برفقٍ ورقةٍ في منزله في نزلة "حمام القاضي" في الشاغور. بعد تخرجي طبيباً، حضّرتُ نفسي للسفر، وكنت متحمّساً لفكرة الاختصاص، بل والبقاء في أمريكا، وكنت أحب أن أتحدّث مع أستاذي المرحوم الدكتور محمود برمدا في أوقات فراغه، فأفصحتُ له عما حضّرت نفسي له. نظر إليّ نظرة عتبٍ وقال: "الإنسان كالشجرة، إذا اقتلعتها من أرضها وزرعتها في أرضٍ غريبة تؤول إلى الموت، ومن لا خيرَ فيه لوطنه لا خير فيه لأرض غيره". تأثرتُ كثيراً بكلماته، فاشتركتُ في مسابقة، ونجحت معيداً في قسم التوليد وأمراض النساء في دمشق، حيث عملت ثلاث سنوات. أوفدت بعدها إلى فيينا – النمسا للاختصاص عند البروفسور هيرمان كناوس (1958-1959) ثم إلى بريطانيا (1960-1963)، وكنت أول سوري ينجح في فحوص الكلية الملكية للمولدين والنسائيين. عدت إلى دمشق في نهاية 1963، وفي نهاية 1964 صرت وزيراً للصحة. منذ الأيام الأولى اكتشفت أن الأمور كلها معوجة فحاولت تقويمها، وهنا بدأت المشاكل. عدتُ سعيداً إلى عملي الجامعي حتى نهاية 1979، أُحلت حينها إلى مشفى الزهراوي، فتابعت عملي حتى إحالتي على التقاعد في 2005. وخلال عملي عملت كل جهدي لتعليم الطلاب والمقيمين، ونشر محبة المطالعة والبحث العلمي وتعلّم اللغة الإنكليزية لتجعل التواصل مع الكتب والمجلات العلمية أمراً يسيراً، وقد لقيت أكثر من صعوبة ومشكلة بسبب اهتماماتي. بالمناسبة: إضافة لدراسة الطب، فأنا درست العزف على الكمان منذ أيام الشباب، في البدء موسيقى شرقية تقليدية، ثم انعطفت بشكل مفاجئ ونهائي إلى الموسيقى الكلاسيكية العالمية، وأنا أحب كثيراً الاستماع إلى عظمائها: باخ، بيتهوفن، فاغنر، ريتشارد شتراوس، الخ..... وأنا أعتقد أن الموسيقى ضرورية لكي تكون حياة الإنسان صحية وطبيعية وسليمة، إذ إن معظم الحروب والقتل الفردي والجماعي وكل أشكال الظلم الاجتماعي ناجمة عن خِلّة مرضية متأصلة في أعماق النفس البشرية وهي حب الظلم والتعدي والعدوان، والموسيقى تستطيع أن تشفي هذه الخِلّة الشريرة.[1] خلال خمسة عقود قضيتها في العمل العام، أسهمت في العديد من النشاطات العلمية في سوريا، وفي نشر الأبحاث الطبية في المجلة الطبية العربية في دمشق وفي بعض المجلات الصادرة باللغة الإنكليزية، كما ساعدتُ في إيفاد العديد من الزملاء للاختصاص لاسيما إلى بريطانيا. لقيتُ كلمات الشكر من بعضهم، والأذى والإساءة من البعض الآخر، لينطبق عليّ مثل "جُوزيَ جزاءَ سِنمّار". هذا لا يعني أبداً أنني نادم على ما فعلت، بل على العكس، فإنني أشجع كل الزملاء الشباب لأن يواظبوا على التعلّم حتى آخر لحظة في حياتهم، وأن يبذلوا كل جهد لمساعدة زملائهم الأصغر منهم، لأن الأمم تتقدم ويعلو شأوها بمقدار ما تملك من علماء مخلصين لوطنهم وللإنسانية، فالعلم والأخلاق القويمة توأمان لازمان لتقدّم الأمم". *** وقد كان الأستاذ فرعون شديد الاعتزاز باللغة العربية، وفي ذلك كتب لي يوم 28 أيار 2012: "لما كنت يافعاً، أيام الانتداب الفرنسي، كانت المدارس العامة تعلّم كلاً من اللغتين العربية والفرنسية في آن واحد. ولأمرٍ أو لآخر، أخذت اللغة الفرنسية تفتنني، وصرت أقرأ قصائد الشعر الفرنسي وأترنّم بها: لامارتين ودو موسيه ودو فينيي ثم شارل بودلير في المدرسة الإعدادية في الحلبوني. وأيام الحرب العالمية الثانية، دخل صفّنا مدير مدرسة التجهيز الثانية: الأستاذ جمال الفرا، وكان رجلاً مهيب الطلعة، طويل القامة، يهابه الطلاب، بالرغم من أنه لم يمسك عصاً. فنهضنا ونهض أستاذنا المرحوم ميشيل فرح. صعد المديرُ المنبرَ ووجهُه مشدودٌ وصارمٌ بل ومقطّب. جال ببصره نحونا وكأنه يتفحّص كل واحدٍ منا. بعد لحظات صاح غاضباً: من منكم صادق فرعون؟ ساد صمت مطلق واهتزت نفوس التلاميذ، ونهضتُ وأنا أرتعد خوفاً وقلقاً وقلت باستحياء: أنا... أشار إلي أن أخرج من مقعدي وأن أقف أمام المنبر. أطال تحديقه فيّ وأنا أرتعد في أعماقي. أخذ أوراق العلامات من مساعده، وفتح ورقتي، ونظر إليّ شزراً ثم نطق: رفيقكم ترتيبه الثاني في الصف، وهذا أمر حسن... ولكنني لا حظتُ أنه نال أربع علامات من أصل عشرين باللغة العربية، ونال تسع عشرة علامة من أصل عشرين باللغة الفرنسية. ثم تابع: ليس من العيب يا أبنائي ألا يعرف الإنسان لغةً أجنبية، ولكنه عيبٌ كبير ألا يُحسن الإنسان لغة قومه! في المساء حكيتُ لأبي ما حدث معي وما شعرت به من خجل وألم، وسألته كيف لي أن أحسّن عربيتي؟ كان والدي يعاملني، ابناً وصديقاً له. ابتسم وطمأنني قائلاً: الأمر بسيط وسهل. كان مغرماً باقتناء مجلة "الرسالة" المصرية الشهيرة، فما كان منه إلا أن صار يأتي مبكراً كل مساء ومعه أعدادها، فنجلس جنباً إلى جنب، ثم يبدأ بقراءة بعض القصائد ويطلب مني أن أردّدَها معه، ثم يشرح لي معانيَ كلماتها، لنعود فنرتّل سويةً ونغني القصيدة، يعلو صوتنا تارةً ويهبط أخرى.. كذلك صباح كل يوم جمعة كانت أقدامنا تأخذنا مشياً إلى جديدة الوادي مع أعداد رسالة محمد حسن الزيات، فنقرأ القصائد والمقالات طوال اليوم. منذ تلك الفترة صار عندي إيمان عميق بأن لغة الإنسان هي ذاته وشخصيته وروحه، ومن يتخلَّ عنها فإنه يتخلى عن روحه وكيانه. إن من لا يحترم لغته لن يجد أياً من بقية بني البشر يحترمها عوضاً عنه. ولهذا لن تتحسّن أحوالنا كلها، العلمية والثقافية والمعيشية والاقتصادية وووو... إلا إذا قمنا بواجبنا المقدس نحو لغتنا العظمى.. وقد قال "غوته" شاعر ألمانيا العظيم في العام 1815م: "من المحتمل ألا توجد لغة ينسجم فيها الفكر والكلمة والحرف بأصالة عريقة كما هي الحال في العربية". أليس من عجب الدنيا أن "غوته" شاعر ألمانيا الأول والأعظم قد دأب على دراسة لغتنا ليتمكن من قراءة الشعر العربي، ولا سيما المعلقات بلغتها الأصلية، بينما يتباهى بعض مدّعي المعرفة في بلادنا حين يرطنون بلغة إنكليزية ركيكة لا تثير إلا السخرية والهزء؟ *** تحدثت طويلاً مع الأستاذ فرعون، وبيننا مراسلات كثيرة. ومما كتب: · يجب على كل فلسطيني مقتدر أن يسجّل تاريخ بلدته أو منطقته أو مدينته حتى لا تنسى الأجيال القادمة الحقائق، وحتى تعمل لإعادتها إلى الحياة . العرب كلهم مقصرون كثيراً في أهمية الاطلاع على أسرار الإسرائيليين كمراحل تمهيدية للحرب المقبلة معهم (1/10/2013). · كان زميلٌ يحاضر فيرفع المنصوب ويجر المرفوع وهكذا. بعد تردد قصير صرتُ أقول له وبصوت عالٍ: يا أخا العرب: هذه هكذا، فاعل مرفوع أو مفعول به منصوب... نظر إلي شزراً وقال بتعالٍ وكِبر: "هل نحن هنا في درس قواعد؟". لاحظ الفرق: كان الأستاذ حسني سبح ممن درس بالتركية ولكنه أتقن العربية وهو في كبره (10/9/2014). · لم أعرف أن الأستاذ سهيل بدورة من أصول فلسطينية، ويحزّ في نفسي أن الفلسطينيين يذوبون مع الزمن في البلاد العربية، وهذا خطأ فاحش وجريمة لا تغتفر لأنني ممن يؤمنون بأن فلسطين بلد عربي، وأن أهلها يجب أن يعودوا إلى حضن وطنهم ولو بعد مائة أو ألف عام، وأن تعاملنا مع الصهاينة يجب أن يكون حازماً، السن بالسن والبادئ أظلم (21/7/2016). وفي رسالة مطولة مميزة منه عقب مكالمة مني كتب مساء 25 كانون الأول 2015: "كُتيّبٌ كنتُ قد قرأته في أواخر أربعينات القرن الماضي، باللغة الفرنسية عنوانه: "رحلة حول غرفتي" للكاتب: "كزافييه دو مايستر". أذكر أن الفصل الأخير عنوانه: "سعيد من له صديق في هذه الحياة" يروي فيها قصةً مؤلمةً مبكيةً عن صديقين في جبهة القتال. أتساءل الآن: هل بقيت هناك صداقة حقيقية؟ لقد أتى صوتُكَ ليؤكّد لي ذلك، ولكننا في أوضاعنا الحالية، وفي واقعنا المؤلم، يختلف الحال تماماً، فالكل يفكر: يا نفسي ومن بعدي الطوفان، وهم لا يدرون أن الطوفان سيأخذهم ويغمرهم ويغرقهم تماماً كما فعل بأصدقائهم المنسيين. هناك تساؤلات كثيرة تدندن في رأسي كل الوقت، ولا أجد لها جواباً شافياً ومقنعاً: لماذا وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟ الكل يتهم الغرب والصهيونية العالمية وإسرائيل الخ... وينسون أنفسهم وأن "دود الخل منه وفيه". لاحظوا أن الجميع لا يفكر في الاقتصاد في الماء أو الكهرباء أو الغذاء في هذه الأوقات العصيبة التي شحّت فيها كل هذه المواد. لاحظوا ماذا يفعل كل مواطن وهو يسير في الطرقات أو يسوق سيارته! كل همّه نفسُه، بل هو لا يتوانى عن رمي أية نفايات. هل رأيتم أوسخ من طرقاتنا؟ كلها مغطاة بأعقبة السكائر، وببقايا الثمار والورق والعلب. كيف يمكننا أن ندافع عن وطننا السليب: فلسطين، والجميع لا يتردد في تشجيع البضائع الأجنبية المرتبطة بالعدو الصهيوني، ولا يفكر في اقتصاد بلده ووطنه؟ لا بد أن يظهر التعجب على وجوه الكثيرين لأنهم يظنون أن ليس عليهم أي واجب تجاه الوطن السليب: فلسطين، بل هو فقط واجب الفلسطينيين أنفسهم! إن ما يحدث الآن في كل البلاد العربية نتيجة للخطة المدروسة والمخططة منذ عشرات السنين في مراكز العدو الاستراتيجية لمثل هذا التفتيت، ولمثل هذه الحروب المبرمجة من بعيد. والمخرج الوحيد مما نحن فيه هو أن تتوحد الجهود، وأن تصفوَ القلوب، وأن تتقارب الأمزجة والأفكار، وأن تُهجر كل أشكال الطائفية والأحقاد والعنعنات الإقليمية والقبلية. هو أن تنتشر المعرفة والعلم، وأن يقوم كل فرد من هذه الملايين الكبيرة بواجبه خير قيام، دون أن ينتظر غيره أن يبدأ في مسيرة الاصلاح هذه". *** حياة الجادين المخلصين لا يمكن تلخيصها بكلمات. وتمكن كتابة الكثير عن الأستاذ فرعون، واستخلاص الكثير مما كتبه هو في مقالاته. رأيت الأستاذ للمرة الأخيرة قبل سفري في أيلول 2016 في مكتبته العامرة، وكلّمته هاتفياً للمرة الأخيرة في عيد الفطر الماضي، لكنّني لم أستطع أن أراه أو أكلّمه في آب 2017، إذ كان شديد المرض، وكانت مكالمتي الثالثة لأهله ثاني أيام عيد الأضحى (الثاني من أيلول). وقتها اعتذرتْ ابنته بأدب شديد عن قبول زيارته، وأخبرتني أنها ستبلّغه سلامي، وأردفت مثلما أردفت من قبل: ادعوا له. تركت دمشق في الرابع من أيلول، وأتاني نعي الأستاذ بعد يومين، رحمه الله رحمة واسعة. _________________________ فهرس مواضيع الأستاذ الدكتور صادق فرعون
الحقوق محفوظة طبيب الوب 2014 ©
http://tabib-web.eu - http://www.tabib-web.eu